اعلم : ان الخشوع ثمرة الايمان ؛ ونتيجة اليقين الحاصل بجلال الله سبحانه وتعالي . ومن رزق ذلك .. فإنه يكون خاشعا في الصلاة وفي غيرها ؛ بل في جلواته وخلواته ؛ وفي بيت الماء عند قضاء الحاجة ؛ فإن موجب الخشوع .. معرفة اطلاع الله تعالي علي العبد ؛ ومعرفة جلاله ؛ ومعرفة تقصير العبد ؛ فمن هذه المعارف يتولد الخشوع ؛ وليست مختصة بالصلاة فحسب ؛ ولذلك روي عن بعضهم : ( أنه لم يرفع رأسه إلي السماء أربعين سنة حياء من الله وخشوعا له ) .
وكان الربيع بن خثيم رحمه الله تعالي من شدة غضه للبصر وإطراقه .. يظن بعض الناس انه أعمي ؛ وكان يختلف إلي منزل ابن مسعود رضي الله تعالي عنه عشرين سنة ؛ فإذا رأته جاريته .. قالت لابن مسعود رضي الله تعالي عنه : صديقك ذلك الاعمي قد جاء ؛ وكان يضحك ابن مسعود رضي الله تعالي عنه من قولها وكان إذا طرق الباب .. تخرج إليه الجارية ؛ فتراه مطرقا غاضا بصره .
وكان ابن مسعود رضي الله عنه إذا نظر إليه .. يقول : { وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ } ؛ أما والله لو رآك محمد صلي الله عليه وآله وسلم لفرح بك ؛ وفي لفظ لاحبك . ومشي رحمه الله تعالي ذات يوم مع ابن مسعود الي الحدادين ؛ فلما نظر الي الاكيار تنفخ والي النيران تلتهب .. صعق وخر مغشيا عليه إلي الساعة التي صعق فيها من الغد ؛ وفاتته خمس صلوات ؛ وابن مسعود عند راسه يقول : ( والله هذا هو الخوف )
وكان الربيع رحمه الله تعالي يقول : ( مادخلت في صلاة قط فأهمني فيها إلا ما أقول وما يقال لي).
وكان عامر بن عبد الله ( ابن الزبير ابن العوام ) رضي الله تعالي عنه من خاشعي المصلين ؛ وكان إذا صلي .. ضربت ابنته آمنة بالدف ؛ ويتحدث النساء بما يردن في البيت ؛ ولم يكن يسمع ذلك ولا يعقله ؛ وقيل له ذات يوم : هل تحدث نفسك في الصلاة بشيء ؟ قال : ( نعم ؛ بوقوفي بين يدي الله تعالي ؛ ومنصرفي إلي احدي الدارين ) ؛ قيل : فهل تجد شيئا مما يجد الناس من أمور الدنيا قال: ( لا ؛ لان تختلف الاسنة في .. أحب إلي من أن أجد في الصلاة ما يجدون ).
وكان يقول : ( لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا)
وقد كان مسلم بن يسار رحمه الله تعالي منهم فلم يشعر بسقوط اسطوانة في المسجد
وتآكل طرف من أطراف بعضهم ؛ واحتيج إلي القطع فلم يمكن منه , فقيل : ( إنه في الصلاة لا يحس بما يجري حوله ) فقطعت وهو في الصلاة .
وقال بعضهم الصلاة من الاخرة ؛ فإذا دخلت في الصلاة .. خرجت من الدنيا )
وسئل بعضهم هل تذكر في الصلاة شيئا ؟ قال : ( وهل شيء احب إلي من الصلاة فأذكره فيها )
وكان أبو الدرداء رضي الله تعالي عنه يقول : ( من فقه الرجل أن يبدأ بحاجته قبل دخوله في الصلاة ليدخل في الصلاةوقلبه فارغ)
وكان بعضهم يخفف الصلاة خيفة الوسواس.
ويقال : إن طلحة والزبير وطائفة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا أخف الناس صلاة ؛ وقالوا : ( نبادر بها وسوسة الشيطان )
وروي أن عمر ابن الخطاب رضي الله تعالي عنه قال علي المنبر : ( إن الرجل ليشيب عارضاه في الاسلام وما اكمل لله تعالي صلاة ) ؛ قيل وكيف ذلك ؟ قال : ( لا يتم خشوعها وتواضعها وإقباله علي الله فيها )
وسئل ابو العالية رحمه الله تعالي عن قوله تعالي {الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ }الماعون5 ؟ قال : ( هو الذي يسهو عن صلاته ؛ فلا يدري علي كم ينصرف ؛ أعلي شفع ؛ او علي وتر !! )
وقال الحسن ( البصري ) رحمه الله تعالي : هو الذي يسهو عن وقت الصلاة حتي يخرج.
وقال بعضهم هو الذي إن صلاها في اول الوقت .. لم يفرح ؛ وان اخرها عن الوقت .. لم يحزن ؛ فلا يري بتعجيلها برا ولا بتأخيرها إثما.
وفي الخبر قال عيسي عليه السلام : يقول الله تعالي : { بالفرائض نجا مني عبدي ؛ وبالنوافل تقرب إلي عبدي }
وقال بعضهم : ( إن العبد ليسجد السجدة ؛ وعنده ان يتقرب بها الي الله تعالي ؛ ولو قسمت ذنوبه في سجدته علي اهل مدينته .. هلكوا ) قيل : فكيف يكون ذلك ؟ قال : ( يكون ساجدا لله تعالي وقلبه مصغ الي هواه ؛ ويشاهد الباطل وقد استولي عليه )
فهذه صفة الخاشعين.
فتدل هذه الحكايات والاخبار مع ما سبق علي ان الاصل في الصلاة : الخشوع ؛ وحضور القلب فإن مجرد الحركات مع الغفلة .. قليل الجدوي في المعاد
والله اعلم